" خلق من الألم أمل "
تصميم غلاف: كوكي أنور.
إشراف: سارة آنجل / أحمد حسام
مقدمة كتاب " خلق من الألم أمل "
تتبعثر الأحرُف؛ لِـتُخلق حياة جديدة مـَع شخصياتٍ جُدد، لِتـبدأ جولةً أخرى، فـأهلًا بـكَ بـجولـِة تَقُصها حـروف مُبدعين حـيـاة، كُل بَطلٍ مِن جولتنا بدأت حياته بألمٍ مَع معاناةٍ ومُجازفة، نَهـى قصتهُ بأمَلٍ يُغير مَجرى حـياة شخصٍ آخر.
أحداثٌ مُختلفة بِخطَط مُرتبَّة، بكلماتٍ مُنسَّقة وبفكرٍ واسع وتسلسلٍ سيجذبُكَ أيُّها القارئ المُستمع، وستتعجَّب قائلًا: كيف للكاتب أنْ يُبرع في التَّلاعب بحروف اللُّغة؟ فهل لكَ أنْ تُلقي نظرةً عمَّا هُنا؟
أحزننا قول العِبر الصغيرة، فسردنا لكم من الحبِ الكثير، سردنا لكم قصصنا المؤلمة، لِتُنير لكم ما يهون عليكُم أوجاعكُم.
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
قصة من كتاب القصص المجمعة " خلق من الألم أمل "
«لا لزواج القاصرات»
«إلى ابنتي العزيزة: لا تحزني لأنَّني فارقتكِ يومًا؛ فلكلٍّ منَّا أجل معيَّن، ولن نعيش للأبد في هذا الدَّهر، أعلم أنِّي كنتُ السند الوحيد لكِ في هذه الحياة، لكنْ الآن يجب عليكِ الاعتماد على نفسكِ، وأنْ تواصلي اجتهادكِ؛ للوصولِ إلى مُبتغاكِ، تذكَّري أنَّ حُلمكِ كالنَّجمة العالية في السَّماء، ولن تصلي إليه إلَّا بالجد والاجتهاد».
كلمات أمِّي دائمًا ما أستمدُّ منها قوَّتي؛ فهي الدَّافع الوحيد لي كي أكملَ سيرًا في طريقي اللانهاية له، أتذكَّر حتمًا ليلة وفاتها، كنتُ جالسة بجوارها على الفراش أبكي، كانت تواسيني وتحثُّني قائلة: لا تبكي؛ فالبكاء للضُّعفاء، وصغيرتي ليست ضعيفة البتَّة.
طويتُ الورقةَ بحذر كبير؛ على أمل ألَّا تتمزَّق أكثر مِمَّا هي عليه؛ فاليوم أتممتُ عامين وأنا أحتفظ بها؛ فتلك كانت الأحرف الأخيرة الَّتي لفظَتْ بها قبل أنْ تُفارق الحياة.
وقفتُ في شرفة الغرفة أتأمَّل البحر مِن أمامي، أرى القادمين والرَّاحلين، سقطتْ منِّي دمعة هاربة؛ فاليوم هو ذكرى وفاة أمِّي وعيد ميلادي أيضًا؛ فلقد أتممتُ اليوم إحدى عشر عامًا، حتمًا لا أعلم أيتوجَّب عليَّ أنْ أحزن أم أفرح.
نفضُّتُ أدمُعي عن وجنتيَّ لحظة دخول أبي، كم ودَدْتُّ أنْ أرتمي بأحضانه وأبوح له بكلِّ أحزاني، تمنَّيتُه أنْ يكون صديقًا لي مثلما كانت أمِّي، لكنَّه لم يكُن كذلك.
=لمَ لم تنامي بعد؟
صمتُّ لبرهة وتطلعتُ له بحزن، ثُمَّ أردفتُ قائلة بيأس: أبي، اليوم هو ذكرى وفاة أمي.
=وما المطلوب؟
- هل يمكنك غدًا أنْ تصطحبني للذَّهاب إلى قبرها سويًّا؟ منذ وفاتها وأنتَ لم تسمح لي بزيارتها!
=لن نذهب إلى هناك.
-أرجوك يا أبي.
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
اقترب مِن الشُّرفة قائلًا بتهجُّم: لن تذهبي إلى أيِّ مكان، ستظلين حبيسة المنزل، ومِن ثُمُّ تسارعتْ خطواته إلى البابِ، وخرج صافعًا إيَّاه بقوَّة.
اغرورقتْ الدُّموع في عيني مرة أخرى؛ فأنا أعلم إجابته وأنَّه سيقول هذا، لكنَّني سأحاول مرارًا وتكرارًا؛ حتَّى يملَّ ويوافق.
جفَّفتُ أدمعي ومِن ثُمَّ وقفتُ أمام مرآة غرفتي، نظرتُ إلى وجهي في المرآة؛ رأيتُ فتاة بوجه شاحب وعينين منتفختين مِن كثرة الانتحاب، اِبتسمت بسخرية ثُمَّ قلتُ: فتاة لم تبلغ سوى إحدى عشر عامًا وأصبحتْ زهرةً ذابلة، كيف ستكمل باقي حياتها وهي منطفئة إلى ذلك الحدِّ؟!
أغلقتُ مصباح غرفتي وألقيتُ بجسدي على فراشي، ظلَلْتُ أتقلب عليه دون أن يغمض لي جفن، أشعر أنَّ صباح الغد سيصبح كابوسًا، لا أعلم لماذا راودني ذلك الشعور لكن إحساسي لا يخطئ أبدًا، وضعتُ وسادتي على رأسي مُغمضة عينيَّ، لأتمتم قائلة: لنرى ماذا يخبئ لنا الغد.
استيقظتُ على صوت دقِّ باب غرفتي بعنف، توجهتُ مسرعة لارتداء حجابي ومِن ثَمَّ فتحتُ الغرفة بضيق؛ فأنا أعلم مَن الذي يدق.
رأيته أمامي، أجل هو، كان يحدِّق بعينه الَّتي تريد أنْ تفترسني، إنه ابن عمي، يكبرني بعشرة أعوام.
نظرتُ له ومن ثم أردفتُ بضيق: ما الذي أتى بك إلى هنا؟ وأين أبي؟ أنا لا أراه.
أتاني صوت والدي من خلفه قبل أن يتفوه هو بكلمة.
-أنتِ يا فتاة، تحدثِي مع زوجكِ بأدب.
نظرتُ خلفي؛ فلم أجد أحدًا لأجيب قائلة: عمَّن تقصد يا أبي؟
أتاني صوت الآخر: حور، لقد طلبتُ يدكِ مِن عمي.
دمعة ساخنة سقطت مِن عيني لحظة تفوُّه ذلك الأبله بتلك الأحرف.
أردفتُ قائلة بصراخ: أبي، هل هو يمزح؟ أبي، أخبرني أنه يكذب، أرجوك.
اقترب مني وعلامات الغضب ارتسمتْ على وجهه؛ ليصفعني صفعة قوية جعلت جدران الغرفة تئِنُّ من كثرة الألم، ليجيب: إن ارتفع صوتكِ مرة أخرى، فستكون نهايتكِ كنهاية والدتكِ.
أتى صوت أحمد قائلًا: عمي، هل يمكنك أن تتركنا بمفردنا؟
نظرتُ لأبي نظرة رجاء، لا أريد أن أجلس مع هذا الشخص، إنني أكنُّ له كرهًا لن ينتهي، لكنَّ الصدمة الكبرى بأنّ أبي سمح له ذلك، ومن ثم رحل.
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
جذب يدي فأسرعت بسحبها قائلة: لا تلمسني.
اقترب من الباب قاصدًا إغلاقه، لأردف قائلة: لا تغلق الباب إن أردت أن تتحدث معي فسر على قواعدي، وإن أبيتَ فباب الغرفة مفتوح أمامك.
همّ ليجلس جواري لأتحدَّث بتهجم: ابتعد عني يا هذا، ألا تفهم؟
جذب كرسي وجلس أمامي على مسافة قصيرة، عم الصمت لوقت ليس بقصير ليقطعه صوت هذا المتعجرف كما أسميه: حور أنتِ تعلمين مدى الحب الذي أكنه لكِ منذ صغرك.
-وما المطلوب؟
=يجب عليكِ الموافقة على عرض الزَّواج؛ ليس هناك حل آخر.
ضحكتُ بسخرية قائلة: أتعلم ما هو فرق السنِّ بيننا؟
= عشر سنوات.
-أليس بكثير هذا؟
=أنا لا أرى أيَّ عيب في ذلك الأمر.
-وهل يجوز لفتاة بمقتبل عمري أن تتزوج وهي لم تتم السن القانوني؟
=لا أرى أيَّ مانع.
-وإنْ رفضتُ الزواج منكَ، ماذا سيحدث؟
وقف مِن على الكرسي واقترب مِن الباب قائلًا: ليس لديكِ حل آخر؛ فكلا الحالتين سيتمُّ عقد القران، ولا يهم ما هي إجابتكِ.
فور خروجه من الغرفة أغلقتُ الباب وبدأتُ أبكي كتلك اللَّيلة الَّتي رحلت أمِّي فيها، لا أعلم كيف ظلَّت قطراتُ دموعي مكبوتة ولم تهبط أمامهم، ليتني ظلَلْتُ في الأمس، ليتني لم أنم، ماذا سأفعل الآن؟ لا أريد الزواج بأحد، لا أحبُّ أنْ يمتلكني أحد، أريد الطَّيران حرَّة طليقة في السَّماء.
بعد ساعات طويلة حسمتُ الأمر، ارتديتُ ملابسي وهممتُ بالنزول مِن غرفتي؛ فأنا على علمٍ بأنَّ أبي لن يأتي اليوم مبكرًا؛ لذا قررتُ أنْ أخرج مِن السِّجن الانفرادي هذا، إنها ثاني مرة سأخرج فيها منه، وأخيرًا سأزور قبر أمي الذي منعني أبي للذهاب إليه منذُ وفاتها، سأشكو لها ماذا يفعل زوجها القاسي بي.
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
وقفتُ أتطلَّع على منزلنا مِن الخارج، حتمًا لقد نسيتُ كيف كان شكله، لكنَّه ما زال في أبهى صورة كعادته.
سِرتُ في شوارع قريتنا وأنا خافتة رأسي؛ خوفًا مِن أنْ يراني أحد ما فيخبر أبي؛ فأصبح وجبة لذيذة لجحيمه.
وقفتُ برهة؛ لأقوم بشراء بعض مِن الورد الأحمر لأمَّي، كم كانت تعشق ذلك اللَّون.
ما يميز قريتَنا عن القرى المُجاورة السَّلام والأخوة والمحبة بين الآخرين، وجدتُّ الألفة والمودة في جميع مَن مررتُ بجوارهم، ورحَّبوا بي ترحيبًا يليق بأخلاقهم حقًّا، على الجانب الآخر مِن القرية تجدُ رجلًا يلعب مع أولاده، وكانت زوجته واقفة يُزيِّن وجهها تلك البسمة الدَّالة على رضاها بذاك الزَّوج الصَّالح، تحمد ربنا عليه وعلى أخلاقه، الذي لم تدنِّسه قواعد بلدته بأيِّ شيء.
هأنا أقف أمام سور المقابر، لم يعد يفصلني عن أمي سوى بعض الأمتار فقط لا غير، امتلأتْ أعيني بدموع الشَّوق؛ فلقد اشتقتُ لها كثيرًا.
ركضتُّ مِن مكاني حتى وصلتُ إلى قبرها وجلستُ أمامه، ما زال في أبهى حالاته منذ آخر مرة جئتُ فيها إلى هنا.
_أمِّي، اشتقتُ لكِ، مضى عامان لم أركِ فيهما، كان يجب عليكِ البقاء بجواري؛ لنبني جميع أحلامي سويًّا وتحتضنيني بيديكِ على نجاحي، لكنْ كما أخبرتيني أنَّ أعمارنا بيدِ الله، انظري، لقد أحضرتُ لكِ بعضًا مِن الورد الأحمر؛ فأنا أعلم أنَّكِ تحبين ذلك النَّوع، أتعلمين؟ ما زال اسمك ينير القبر، كأنَّه بُنيَ بالأمس ليس مِن عامين، أمِّي، سأطرح عليكِ بعضًا من الأسئلة.
لمَ لا تسير الحياة كما نريد وتأخذ مَن نحب؟ ولمَ ليس هناك آلة للزمن نقوم بيها بتغيير الزمن؟
أتعلمين؟ إنْ قابلتُ جِنًّا، فستكون أمنيتي الوحيدة هي أنْ تعودي إلى الحياة؛ لم أعد أتحمل فراقكِ، لقد قدَّمني أبي كبشًا لذلك الأبله، هو يريد فقط أن يلهو بي وأنا لستُ مستعدة بأنْ أضحي بحياتي مِن أجل مراده القذر، ما أريد أوَّلًا، ومن ثُمَّ ما يريده الجميع، لكنَّه لم يترك أيَّ خيارات أمامي، وفجأة بين ليلة وضحاها تفوَّه أبي بتلك الكلمات الَّتي شطرت قلبي لأجزاء عديدة.
كنتُ أسرد لها آلامي، إلى أنْ سمعتُ صوت تكسير أغصان من خلفي، واحد لا بل اثنين، حسنًا إنهم أربعة شُبَّان وبينهم أحمد، ماذا يفعلون هنا؟ وماذا يفعل هو معهم؟ أعتقد أنهم سكارى، إنهم حقًّا ثملين، أين سأذهب الآن؟
اختبأتُ وراء قبر أمي وأنا أُرتل بعضًا مِن السور تارة، وأدعو أنْ ينجيني ربِّي مِن هذه الكارثة تارة أخرى؛ فأنا أعلمه أنَّه إنْ رآني بتلك الحالة، مِن المؤكَّد أنَّه سيعتدي عليَّ، أو يصطحبني إلى المنزل ويعذِّبني أبي.
ما يفصلني عن الخارج هو بضعة مقابر ليست بكثيرة، اقتربتُ إلى الأمام عدَّة خطوات؛ لأرى أين هم الآن، فوجدتُّهم يبتعدون وكان هو يرأسهم، فررتُ مسرعة وأنا آمل أنْ يسير مُرادي على نحوٍ صحيح وألَّا يُكشف أمري، كنتُ أنظر أمامي مرَّة والمرَّة الأخرى أنظر خلفي؛ إلى أنْ تعثَّرتُ بحجارة كبيرة؛ أدتْ إلى إصابتي إصابة شديدة؛ فصرختُ صرخة عالية، غافلة عمَّن يسيرون هنا، وما هي إلَّا ثوانٍ معدودة وسمعتُ صوت أقدامهم تقترب منِّي؛ فظَلَلْتُ أزحف، غير مُهتمَّة بتلك الدِّماء الَّتي سالت وتركتْ خلفي أثرًا.
وكما يقولون أنَّ الله يفرج كلَّ عسر، مِن حسن حظِّي أنَّه مَن كان خارج المقابر، هو الشَّيخ عثمان، شيخ القرية المقابلة لنا، إنَّه يَعلمُني وأنا أحفظ شكلَه عن ظهر قلب؛ فلن أنسى مواساتُه لي عندما أخذوا جُثمان أمِّي مِن أمامي حينها.
-حور، ماذا هناك؟
_كنت ذاهبة لأزور قبر أمِّي، لكنَّني وجدتُّ بضعة شبَّان ثملين، هرولتُ مسرعة للتخلُّص منهم؛ فتعثَّرتُ بحجارة؛ فأصبح هذا حالي.
اصطحبني معه إلى منزله، لم يكن المنزل بعيدًا قط، قدَّم لي الطَّعام والشَّراب وقام بتضميد جروحي، حقًّا إنَّه خير أب لأبنائه.
_شيخ عثمان، شكرًا جزيلًا لكلِّ شيء فعلته، أتسمح لي بالذهاب الآن؟
-كيف ستعودين إلى المنزل وأنتِ بتلك الإصابة؟
_لا تقلق عليَّ ولا تحزن أيضًا، لكنِّي حقًّا مضطرَّة إلى للذَّهاب إلى المنزل سريعًا.
-حسنًا يا ابنتي، خذي حذركِ.
خرجتُ مِن المنزل على أمل أن أعود لمنزلنا قَبل عودة أبي، ما يُرهقني هي تلك النُّدوت الَّتي أصابتني، ماذا إنْ علم أبي بها؟ ماذا سأجيبه؟
هأنا الآن أمام غرفتي، هرولتُ للداخل وأنا مبتسمة وبداخلي سعادة لم أستطع أنْ أخبِّئها حقًّا.
عاد أبي ولم يعلم بما فعَلتْ، إلى أنْ أتى ذلك المتعجرف ليدمِّر فرحتي، كنتُ نائمة على فراشي وما أفاقني هو صوته الأحمق، سمعتُ صوتَ أرجل تتقدَّم ناحية الغرفة؛ فقمتُ بإغلاق عيني؛ خشية حدوث ما يدور برأسي.
لم يطرق أحد منهم الباب؛ فقد اقتحموا الغرفة دون سابق إذن، لينادي أبي بتهجُّم: حور.
تملَّكني الرُّعب لكنْ فضلتُ النوم على ألَّا أجيبه، ليُنادي ثانية: حور.
-نعم.
=ألم أنهاكِ عن الذَّهاب إلى هناك؟ منذ متى وأنتِ تعصي أوامري؟
تلبكتُ ولم أعلم ماذا أفعل، لأقول بتردُّد: كيف علمت؟
ليردف ذلك الأحمق: أتعتقدين أنَّني لم أراكِ.
اقترب أبي وصفعني صفعة أدَّت إلى وقوعي أرضًا ومِن ثُمَّ استدار إلى الخلف قائلًا: زفافك غدًا، وغادر وقام بحبسي في الغرفة.
أتذكَّر ليلتها أنَّني لم أذق طعم الراحة قط، وظَلَلْتُ أبكي حتَّى انتفختْ عيناي مِن كثرة البكاء، وأصبحتُ رؤيتي مشوَّشة.
في الصَّباح الباكر جاءت تلك الفتاة لتقوم بتجهيزي، وأنا تذرف الدُّموع منِّي وهي غير عابئة، نظرتُ للمرآة إلى أمس كنتُ ما زلت طفلة، لكنْ الآن سأصبح زوجة! أنتَ لا تعرف مدى الكره الذي أكنُّه لكَ يا أبي.
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
رحلتْ تلك الفتاة وتبقيتُ بمفردي، لا أعلم لمَا خطر بتفكيري الشَّيخ عثمان الآن، لكنَّني فكَّرتُ قليلًا ووجدتُّ أنُّه النَّاجي الوحيد لي مِن تلك الأزمة، فخرجتُ مِن الغرفة؛ لأرى هل مِن أحد هنا أم لا، لكنْ لحسن الحظّ كان الجميع منشغلين بتجهيزات الزِّفاف.
اقتربتُ مِن شباك غرفتي قائلة: سامحني يا أبي، سأعصي أوامرك للمرَّة الثانية.
استمريتُ بالركض غير آبهة بنظرات الأشخاص مِن حولي، ولا يهمني ماذا سيقولون، أجل أنا عروس هاربة مِن زفافها.
وقفت بعد فترة أنهج، لقد نزفتْ قدمي مِن جديد، وعادت تؤلمني، لم يعد هناك سوى بعض المسافات للوصول إلى منزله، لكنَّ الأرق تملَّكني ولم أعد قادرة على الركض.
جلستُ خلف صخرة كبيرة؛ لأقوم بإعادة ترتيب دقَّات قلبي، حتمًا إنْ علم أبي أنَّني لستُ في المنزل سيقوم بقتلي، ليس هناك قانون للرَّحمة في حياته.
توقفتُ مِن مكاني وخطوتُ عدَّة خطوات غير متزنة، إلى أنْ وصلتُ لمنزله أخيرًا بعد عناء كبير، لكنْ خيَّمَ الحزن فؤادي فور عِلمِي بأنَّه في مجلس القرية، وتلألأت الدُّموع في عيني؛ كان مأمني الوحيد، أمَّا الآن فمن لي؟ وللأسف لا أعلم أين يوجد مجلس القرية في تلك القربة الغريبة عنِّي.
لِحُسن حظي دلف رجل للدَّاخل، في بادئ الأمر اقشعرَّ جسدي خوفًا مِن أنْ يكون رجلًا مِن رجال أبي، لكنْ علمتُ مِن زوجة الشَّيخ بأنَّه ابنها، فركضتُّ أمامه قائلة: سيدي، أرجوكَ اصطحبني للشيخ عثمان، أرجوك، ليس أمامي وقت.
نظر لي نظرات إعجاب ليقول: لمَ ترتدين ملابس عَروس؟
-سيقوم أبي بتزويجي.
أخذني إلى هناك، وما هي إلَّا دقائق حتَّى وصلنا؛ فتركتُ يده وهرولتُ مسرعة للوصول إلى الشَّيخ عثمان.
رأيتُ نظرات التعجب كانت تبدو على وجهه.
-حور ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟
=أبي يريد أنْ يزوِّجني، أنتَ الوحيد الذي يستطيع أنْ يمنعه، أرجوك امنعه، أريد أنْ أعيش باقي طفولتي كباقي الأطفال، أرجوك.
احتضني قائلًا: لن يصيبكِ مكروه ولن يحدث لكِ شيء، أعدك.
تركني ومِن ثُمَّ استدار وهمَّ ليمشي، مسكت بيده.
-أين ستذهب؟ خذني معك، إنَّني خائفة.
=ابقِي مع أمجد ولا تخافي؛ سيقوم بحمايتك لحين أنْ أعود إلى هنا.
جلستُ بجواره وأنا أُتمتِم قائلة: أمِّي عودي أرجوك، أين أنتِ؟! أحتاجك بشدة.
ما هي إلَّا دقائق وخرج الشَّيخ عثمان، سِرتُ نحوه قائلة: ماذا كنتَ تفعل بالداخل؟ ولمَ تركتني هنا؟
مسك بيدي وهبط إليَّ، ليقول: هل تثقي بي؟
-أجل، إنْ لم أكن أثق بكَ لم أكن لألجأ إليكَ.
=حسنًا، هيَّا لنذهب مِن هنا.
أخذني معه وعلامات التَّعجب تعتري وجهي، لماذا يعود بنا إلى منزلنا؟ نظر لي نظرة توحي بألَّا أقلق؛ ففضَّلتُ الصَّمت.
وصلنا أمام البيت، أشعر بحركات الفوضى في الدَّاخل، تقدَّم الشَّيخ عثمان وكنتُ أخطو على خطاه، دلفنا إلى الرُّدهة، ليرانا أبي؛ ليشتعل غضبًا قائلًا: تعصيني لثاني مرَّة يا حور، عقابكِ سيكون مؤلم للغاية هذه المرَّة.
اقترب منِّي وأنا خلف الشَّيخ عثمان الذي كان متمسكًا بيدي، وأردق قائلًا: هل تسمح لنا أنْ نجلس بمفردنا؟
=إلى أين تريد أنْ تصل؟
-وافِق على طلبي وسأخبركَ بكلِّ شيء.
وافقَ أبي وتركني الشَّيخ عثمان، لأرى ابن عمِّي يقترب مني؛ لأعود مُمسكة بيده وأقول: لا تتركني هنا أرجوك، سيقتلني.
-أنصحكَ أنْ تفكر جيِّدًا قبل أنْ تخطو وتصل إلى هنا؛ لأنَّكَ ستُساق إلى القبر.
احمرَّتْ أعينه غضبًا وتوقف عن التَّقدم.
جلسا معًا على بعد مسافة بيننا لم تجعلني أستطيع استماع حديثهما، وما هي إلَّا دقائق لأستمع صوت أبي قائلًا بصراخ: إنها ابنتي وأفعل بها ما يحلو لي.
لم ينطق الشَّيخ عثمان بكلمة، ليأتي صوت مِن خلفي: قوانين هذه القرية لم تتغيَّر، رغم تغيير قوانين القرى الأخرى، لا أعلم لمَا كلُّ هذا الجهل ما زال يعتريكم.
إنَّه شيخ القرى مَن كان يتحدث.
_وهذا شيء لا يخصُّكم، أتردد في تزويجها.
-حتَّى بالرَّغم مِن عدم موافقتها؟!
_أجل.
أجاب شيخ القرى: أعتقد أنَّك لم تقرأ باقي ذلك القانون.
- كان النَّصُّ يقول: «مَن أراد أنْ يُزوِّج ابنته وهي قاصر فليفعل ما يشاء، لكنْ يجبُ على والدها وزوجها كِتابة جميع أملاكهم لها، وليس لهم الحق في أخذ أيِّ شيء منها».
حسنًا، في الحقيقة اعترتني الصَّدمة أنا أيضًا؛ فلأول مرَّة أسمع ذاك النَّص.
قال أحمد: عمي، أنا أمتنع عن ذلك الزواج، وافقتُ على الزواج منها مِن أجل أنْ تعطيني محصولًا شهريًّا في أرضكَ، أمَّا الآن لا أريد شيء، وهمَّ مسرعًا إلى الخارج.
لم يكن لأبي سوى أنْ يخفض رأسه؛ فلقد تخلَّى أحمد عنه، ألم يكن ذاك هو مَن يريدني أنْ أتزوَّج منه؟!
-قوانين منزلك ليست بقوانين، إنُّه سجن حقيقي.
تقدَّم نحوي قائلًا: لا تقلقي صغيرتي؛ سنقوم بتغيير قواعد تلك القرية، لأقول: شيخ عثمان هل ستتركني هنا؟! إنَّني خائفة.
-لا، سآخذكِ لمنزلي، ولن تعيشي هنا ثانية.
_لن تأخذها ما دمتُ حيًّا.
أجاب شيخ القرى: سنأخذها مقابل عشرة آلاف دينار في الشَّهر الواحد، هل توافق؟
الحقيقة الوحيدة هي أنَّ أبي يستطيع التَّخلي عن أيِّ شيء مقابل المال، حتَّى أنا! لذا تركني ورحلتُ مع أبي الجديد «شيخي عثمان».
أعلم أنَّ الله قد أخذ منِّي أمِّي، لكنَّه أهداني بدلًا منها الشَّيخ عثمان؛ فعو استطاع أنْ يُعوِّضني عن حنان أبي الذي لم أرَ أيَّ حب وحنان منه، أكملتُ تعليمي الذي كان مُحرَّمًا عليَّ، واعتبرتني زوجته ابنةً لها؛ فهي لم تنجب سوى ولد فقط وهو أمجد، ورحَّبت بفكرة بقائي معهم، لقد عوضتني عن فقد أمِّي كثيرًا.
في اليوم التالي دخل الشُّيخ المنزل قائلًا: حور يا ابنتي.
-نعم يا أبي.
أعطاني ورقة بها قواعد جديدة لقريتني القديمة، وكان أول قانون يرأسها: «لا لِزواج القاصرات».