تصميم غلاف: مريم جمعة
نبذة عن الكاتبة:
تولّد: 1986.
البلد: سورية، دمشق.
الدراسة: إدارة أعمال
العمل، مجلس الشعب السوري
صدر لي روايتين (حلم عابر – من حواء إلى آدم)
وروايات الكترونية
لأنني لاجئة
حب مع وقف التنفيذ
وطن
اعترافات فات أوانها.
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
قراءة قصة نرجس.
"أنا نارً يا مالك، ولستُ جنّةً تسعدُ بها"
طوى الورقة في جيب بنطاله كيّ يتذكّر وقفة الذلّ هذه على باب أميرة القصر، لكنّها لم تكن مسحورة بل كانت ساحرة، لم ينظر إلى الأعلى كعادته، بل أطرق رأسه بحزنٍ ومشى الهوينا.
شيّعته بنظراتها غير نادمة لكلمة خرجت من فاهها، تعشق وجهه الجميل وتمقت ثيابه الرثّة، أمسكت دفترها وبدأت تكتب حبّاً له، لم تقله يوماً لفؤاده الغضّ، إنّه رجل كلماتها ولكن لن يكون رجل حياتها.
لحقت به دارين ونادته:
- أيا مالك.. تعال .. فالحبّ في حارتنا كثير وليس مقتصرٌ على تلك الدار.
- ولكن لا أرجو سواها حبّاً يا دارين.
- هي نارُ وأنتَ جنّة.
- وأنا راغبٌ في اللعب بالنيران.
- ستحرقك وتؤلمك ولن تجد علاجاً يداويك، ولا تنس قول جدّتك حين قالت لك "لا تنظر إلى نافذة في الأعلى قد فُتحت"
- ولكنّ بريقها قد فتن الروح فيّ.
- لا يخدعنّك البريق، فما هو إلا بريق خدّاع... اسمع يا صاحِ هناك نوافذ كثر لا يهمّها إن كنت تعرف موزارت أو بتهوفن، ما يهمّها رهافة قلبك.
أطرق برأسه ومشى في تثاقل وكأنّه يمشي على قلبه الجريح.
اختفى مالك عن ساحة نرجس التي كانت مشبعة بالغرور وأناها تضخّم في كلّ مرة يلقاها حتى يبدو كالقزم أمامها، هي عازفةٌ بارعة وهو لا يفقه من عزفها شيئاً. فكانت تتنمّر عليه وتهزأ به لأنه لا يجيد لفظ أسماء العازفين العالميين.
ظلّت نرجس في الأعلى تراقب عودة الوجه المليح، العامل الرثّ الثياب الذي يعمل في إصلاح السيّارات، لم يعد مالك بتاتاً ولم تراه بعد استهزاءها الأخير به حين سألها "من موزارت الذي تحدّثيني دائماً عنه؟ أهو رفيقك في معهد الموسيقا؟ أم معهد الباليه؟" ضحكن بملء فيها وقالت له حينها: "لا تطرق بابي ثانية قبل أن تعرفهم جميعاً وقبل أن تبدّل ثيابك السوداء".
مرّت السنون تتلوها سنون أخرى ومالك لا أثر لها ونرجس تكتب عن حبيبٍ يهيم بها بشرط أن تكون ملابسه بيضاء، تبحثُ عن حبيبٍ يسهل امتلاكه، يرى نافذتها فيهرول إليها ولكن للأسف جميعهم يخشى نافذة القصر المسحور ببريق خدّاع.
يا لسرعة الأيّام في العدو فقد جلبت لها في غابر الأيّام فارس دون حصانه الأبيض، لمحته من نافذة غرفتها الصغيرة، خُدعت بقميصه الأبيض فعلقت بحبال أوهامه، كان ماهراً في الصيد ولم يره أحد ينظر إلى أضواء الغرفة العلوية.
يومٌ إثر يوم حتى باتت تنتظر لقياه ولكن ليس أمام النافذة وهو في أسفلها كروميو وجولييت، بل كانت تلقاه بعيداً عن الأعين وحارتها. وفي البعيد عن قصص الجدّات القديمة حاك لها ملابس من الغرام تصلح لارتدائها.
صدّقت الحروف ووثقت بخيوط غرامه ولم تنتبه إلى أنها كخيوط العنكبوت واهية.
ذهبت إلى صومعته مرّات عدّة وأعطته جميع ما تملك لتشبع غريزة الغرور بداخلها ولتنتقم من حبيبٍ كانت تكتبه وترسمه في ذهنها أميراً, لكنّه كان فقيراً لا يملك بنساً واحداً.
عاشت الغرام معه حتى أنساها بأن الحقيقة الجوفاء ستظهر فيما بعد، حين يتكوّن يوماً في بطنها جنينٍ صغيرٍ يبحث عن حياة يحياها.
لم يوعدها ثائر بشيء وهي التي أتت إلى أرضه حين رقص الغرام في دربه فانساقت إليه سعيدة بدربها الجديد غير آبهة للمشكلات التي ستحدث لاحقاً.
وفي نهاية المطاف استطاع ثائر سلبها أعزّ ما تملك وأخذ شيئاً ليس من حقه وبعدها تركها في أرضٍ من ألمٍ ما معها أحد. وحدث ذلك حين أخبرتها بحقيقة غابت عنه وعن طفلٍ تكوّن في أحشائها يطالب بحياته رغماً عنهما. رفض الإصغاء لها وعنّفها على هذيانها، ثمّ قام برميها خارج صومعته الذهبيّة، وهو يدرك بأنّها لن تقدّم شكوى ضده، فهو شيخٌ جليل قد عرفه الحي بأكمله على أنه شيخٌ ورع لا يقدم على أفعال مشينة لا تمتّ لأخلاقه بصلة. لن يصدّقها أحد ولن تجد يداً تمدّ لها يد الرحمة.
مرّت شهور الحمل في ألمٍ وحسرة لا تحتمل، لا أحد في صفّها والكل يمقت نرجسيّتها المتعالية، انتفخ بطنها وتكوّر جسدها والتفّ جيران الحيّ حولها، الكلّ يعاتبها ويصرخ في غضب، يتهمونها بفعل الكبائر ويريدون معرفة مرتكب الجريمة، الزبد يتطاير من أفواههم، يطالبون الجمع بالقصاص العادل، وثائرٌ معهم يصرخ في وجهها بأنّها فاسقة ويجب أن يُقام عليها الحدّ، يجب على الجميع رجمها لتكون عبرة لغيرها، وهي تبكي ذلّها أمامهم، تبكي صمتها وخنوعها ووحدتها، تبكي غبائها وتسرّعها في الهروب إلى أحضان ثائر.
وفي النهاية سمعت صوت بطل حكايتها الوهمية، فنظرت إلى ثيابه النظيفة ووجهه المضاء، كان يصرخ مدافعاً عنها ولكنّها كانت تريد الهرب من حفرة ساقوها إليها، تريد الابتعاد عن وجعٍ ينسجوه لها، فصرخت في انفعال أرجفه بأنه هو مرتكب الجريمة "فلتسوقوه ولتقيّدوه، هو من فعل فعلته بي رغماً عني وأنا من المعصية بريئة تائبة.
التفّ الجمع حوله وهم يصرخون به ويدفعونه إلى محكمة غير بعيدة، وفيها أصدر القاضي حكمه بالنفي مجدداً إلى بقاعٍ مهجورة لا يعود إلى هنا أبداً.
لم تسكت دارين على ظلم ذوي البشر، ذهبت إلى القاضي وطالبت بالقصاص العادل لمرتكب الجريمة، طالبت بالبراءة لحبيبٍ لم يعرها انتباه، أخبرته بغيابه عن ساحة الجريمة، وأمدّته بشهادات لا حصر لها لمالك، إذ كان هناك في البعيد يدرس ويجتهد ليثبت لها بأنه مؤهّل ليمارس معها دور الأمير في قصّتها.
أعفى القاضي عنه، ثمّ جلب كليهما (نرجس ومالك) ووقف القاضي أمامها يحثّها على قول الحقيقة. نظر إليها بعد سنوات من الغياب، وفي هذه القاعة حيث اجتمعت الجنّة والنار معاً، اعتذر لها عن كلّ نظرة محرّمة إلى نافذتها ، هي نظرات آثمة، فلم يكن يجدر به النظر إلى نافذة في الأعلى قد فُتحت، وما كان يجدر به الثقة ببريقها الخدّاع. وتأبّط ذراع دارين وغادر المحكمة في ثقة لم يعهدها به من قبل.
أصدر القاضي حكمه بنفيها وسجنها بغرفة باردة دون مرايا، فهي عاشقة المرايا والعزف والرقص على الأوتار، ودون نوافذ في الأعلى كي لا تفتحها لعابر سبيل يهيم بها.
أطرقت رأسها في وجلٍ وقالت له في استحياء.
- هل لك أن تمدّني بدفتري وقلمي، فما زال الحبيب في صفحاته ينتظر مني فتح نافذة العشق له.
*تمت*