تصميم غلاف: بسمة كرم
التعريف بالكاتب:
الإسم: مهند منصور
العمر: 18 عام
الجنسية: مصري
الدراسة: طالب قانون.
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
قراءة قصة " مفهوم سابق " بقلم مهند منصور
أنا مريض بالعلل، ولا استكين إلا وقد استنرت أصل الأشياء التي تعرض علي أو بمعنى آخر لا استكين أبدا؛ ولهذا السبب أعجب كثيرًا من نفسي...لكن -غالبًا- سرعان ما يستحيل عجبي لسخرية، وما يلبث إلا وقد كان رثاء وعطفًا. على كل حال، أنا ساخر أو يمكن أني ساخط على هذا المرض على قدر ما يسببه لي من آلام في الرأس، إنه ذاك الذي لا أجد له برءًا، مرض التماس العلل للمبدأ الأول.
حينما كنت مع صديقي عبد المعز، صاحب النظرة الباردة الذي أبغطه عليها بشدة -رغم سوئها. تسألت لو أنه يقدر على أن يعطيني رأيًا في أمر لطالما شغل بالي. لم أسأله لأنه الوحيد الذي يعبأ بترهاتي. أو لأنه صديقي الوحيد وبالتأكيد لم أسأله لأنه الشخص الوحيد الذي إذا سألته لا يبتعد عني متضجر وهو يقول في نفسه: «ما أكثر الخياليين في هذا العالم، وما أوهى أحلامهم». بل اتخذت القرار بأن أسأل ذلك الفتى التعيس المهموم؛ لأنه أذكى شخص يمكن أن تقابله، يحب القراءة بشدة، ومع ذلك، فهو لم يقرأ أبدًا لأي من الكتاب الذي أعتبرهم نفيس الأدب العربي، طه حسين،و يوسف إدريس، وعباس العقاد،وتوفيق الحكيم. لكن في بعض الأحيان تكون الفضة أكثر قيمة من الذهب، نعم…لكن حين تكون بكميات أكبر وذلك ما كان يعكف عليه عبد المعز. وقد باغتني الفتى بالحديث عن شيئًا بعيدًا جدًا عن موضع سؤال…
قال لي: « انظر، إن كل شيء في هذه الحياة ضروري بالضرورة؛ لأنه إن لم يكن كل شيء ضروريًّا فهذا معناه أن الله قد خلق أشياء غير مُفيدة.»
سارعت إليه سائلًا: «لكن يا عبد المعز إن ليس ما هو ضروري لك ضروريًّا لي، إن كل شخص يري الأشياء بطريقة مختلفة، أليس كذلك؟»
-« طبعًا، إن ما هو ضروري لشخصٍ ليس شيئًا حتى لشخصٍ آخر، أنا أعلم، لكن الله قد منَح كل ما هو ضروري لكل الناس في العموم؛ عندك عينين للرؤية، ويدين وقدمين للقيام بالنشاطات، لك فم، ودماغ للتفكير، وأعضاءً للإنجاب»
-« فهمتك وعلى أثر كلامك، هل يوجد لدى جنسنا أفكار موحدة ضرورية؟»
-« نعم؛ ولك الدليل، أينما ذهبت دائما ستجد أن الناس يحترمون آباءهم وأمهاتهم، وأن الناس يُلزمون أنفسهم باحترام وعودهم، وأنهم يُشفقون على الأبرياء المقهورين، ويكرهون الاضطهاد والظلم. هذا كله من الضروريات يا صديقي، أفكارنا الموحدة تلك ضرورية لكي نعيش في مجتمع سوى.»
أنهينا ذلك الحديث صمت وصمت هو لوهلة ثم أردف: « كان ضرورياً لي أن أحدثك عن الضروري كي أجيب على سؤالك، لا تؤاخذني»
- «لا عليك»
- «حسنا، إن السؤال عن الحب من أقدم الأطروحات الفلسفية، انا لست فيلسوفًا.»
- «على الأقل أنا أعتقد بأنك كذلك، أجبني يا هذا لا تتخابث»
ضحك، أي والله ضحك، وأنا كنت قد نسيت صوت ضحكته، ضحك وأجاب علي بإعطائي من مسكناته الفكرية التي لم تفشل أبدًا في إشباعي وتسكين آلامي : «إن الطبيعية تعوض البشر -عن كل المميزات التي تميزت بها الحيوانات؛ من قوة وجمال ورشاقة وسرعة- بالحب. ولأن الناس لديهم موهبة تحسين كل شيء تنعمه عليهم الطبيعية، فقد حسَّنوا الحب بالضرورة؛ الإهتمام بالصحة يجعل أعضاء الشهوة أكثر حسًا، وقد ضمن التحسين الذي تمتعت به الشهوة على أيد الناس؛ أنهم جعلو كل العواطف الأخرى تتداخَل مع عاطفة الحب، تمامًا مثل ذرات الأكسجين والصوديوم؛ الصداقة، والاهتمام، والتعاون. وكذلك حب الذات هو الأساس؛ فالمرء يُصفِّق لذاته على اختياره.»
-«لكن، ليس شرطًا للحب أن يتضمن شهوة، فقد ظلت إلواز على حبها لأبيلار رغم أنه كان خَصِيًّا، لكن راهبًا».
-«إن الحب الحقيقي الذي تحكي عنه، يأخذ الإنسان من كونه نفسه، ضاربًا عرض الحائط بكل الرغبات الحيوانية التي قد يملكها»
-«بالضبط، ولكن كيف نميز ذلك الحب التي لا تشوبه شائبة عن غيرها من النزوات العابرة؟ فحيثما ألتفت أجد أنه كثيرةٌ هي أنواع الحب، إلى حدِّ أنك لا تعرف أن تعرفه.»
-« إن اسم الحب بجرأة يُمنح لعلاقات سطحية بشكل مقزز، عاطفة بلا احترام، خيال رومانسي، شهوة يعقبها تقزُّز سريع؛ أوهام. فـ اقرأ واستمع: لا لكي تمارِي وتُفحِم، ولا لكي تعتقدَ وتُسلِّم، ولا لكي تظفر بحديثٍ أو قول، بل لكي تروز وتُمحِّص.
إن الحب، الذي يستحق أن يطلق عليه كلمة "الحب" يفسِّر الأشياء الربانية، والإنسانية، ومن ثُمَ يصل بينها، وينقل الصلوات والتضحيات من البشر لله، ويوصِّل أوامر الصلاة والعبادة من الرحمـٰن إلى البشر. الحب يملأ الفراغ. يربط الطبيعة الربانية بالطبيعة البشرية. يشعل غضب الحكام الظالمين لو وجود بين الرعية.
إن سيد أنواع الحب هو الذي لا نَهون به، بل يزيدنا عزًّا وسؤددًا. الحب الذي أنزله الإله، الحب الرقراق الذي هو الإخلاص والنقاء. الهيام الذي يمكن تمييز أصحابه عن غيرهم في إبان عشقهم لأصحاب العقول الناضجة والنفوس السليمة، إن هذا الحب الطاهر أشرف وأرقى من أن يُوضع في مواضع الشك والارتياب حتى. أما الحب الذي يعشق الأبدان والذي يفعله العامة من الناس، هذا الدنس، الذي يستهين بالنفوس، ولا يحترم الشرف والجمال، ولا يعمل إلا لإشباع شهوات الجسد، إنه من الشياطين».
كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشر مساءً حين أنهينا حديثنا، وهذه وقت متأخر بالنسبة لليالي كانون الثاني. فعرضت عليه أن يقضي الليلة معي حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر حتى! لكن لا حياة لمن تنادي. أغلق صديقي سحاب معطفه الطويل حتى عنقه؛ إذ كانت الليلة السماء تبكي بحرقة، وقال: «لابد أنه عمل شاق جدًّا أن يتحدث المرء كثيرا؛ ولكن، أتعرف، اعتقدتُ أحيانًا أنه قد يوازيه مشقةً أن يصمت المرء ولا يبدي رأيه.» بينما كان يقول ذلك، ألقى عليا تحية المساء، ودفع باب الغرفة فاتحًا إياه. وذهبت معه حتى مدخل المبنى؛ لأغلق البوابات الفيروزية من ورائه. مضى… مضى وهو يمشي بسرعةٍ عبر الشوارع الرطبة المظلمة بحثًا عن أي وسيلة مواصلات.
* تمت *