"صندوق من اليوسفي"
تأليف: رغد النابلسي
تصميم غلاف: أميرة محمد
أعمال الكاتبة "رغد النابلسي" السابقة
روايات في المجال الورقي، مثل:
صبا الصنوبر.
لا أسرار بين الصديقات لليافعين.
ورواية امرأة من صوف للكبار.
إضافة لعدة قصص قصيرة في كتب مُجمعة ورقية مع عدة دور مصرية، ولها مشاركات سابقة في مجلات الأطفال والمجلات الناشئة.
حائزة على المركز الأول في مسابقة حريف الذواقة التي نظمتها خلال الشهرين الماضيين منصة ذواقة الكتب.
ملخص كتاب "صندوق من اليوسفي"
كتاب يناقش مواضيع عدّة تمس العاطفة والوجدان بشكل أدبي فلسفي عبر خواطر تربط بين مواضيع: الحب، العائلة، الطفولة، الأحلام وبين اليوسفي بصفته العنوان، بعض الخواطر متسلسلة، وبعضها مستقلة، والكتاب بالعموم بكل خواطره يربطه خيط واحد هو ذكر اليوسفي في كل الخواطر وجعلِه مَرجعاً لمواضيع العمل.
انشر معنا على الموقع وتواصل معنا مباشرة
"اقتباسات من كتاب "رغد النابلسي
الاقتباس الأول:
أيتها الخطيرة الساحرة السُّكرة، شكراً لابتكارك إياي، ألبستني في قصصك البذلة الباهظة التي لم أستطع شراءها في الواقع مهما جمّعت من نقود، أخذتني إلى حفلٍ راقٍ وعرّفتني على نخبة المجتمع، ولم تنسي إدخالي إلى أقبية الفقراء لنبكي معهم على آلامهم وآلامنا، شكراً، لأنني معك، وبفضلك عشت عدة حيوات، كم كنت أخاف مروري في الدنيا بحياة محدودة ضيقة واحدة، لولاكِ ما تذوّقت عذوبةَ الاحتمالات، ولا توسع أمامي الأفق، ولا ولدت عشرات المرات في كل مرة من رحمٍ مختلف لأتعرّف على كل نسخة من ذاتي والشكر لك، لحبّك العجيب لي، لمدن الملاهي التي بنيتِها لنا، وللوسادات الدافئة التي نوّمتِ أرقَنا عليها ببراعة أمٍّ تُمد يدها في بئر النعاس وتلتقط أرنب النوم من أذنيه لتطعمه لأعيننا المستيقظة فنصاب بالسهاد، ونغفو كالملائكة.
الاقتباس الثاني:
سأريح بالك، لم أُمنَع من مصاحبة البرتقال، تخمينك في محلّه، صُدّرَ لي دوماً على أنه أخي الكبير والأقوى بنية وطُلب مني الاستماع لرأيه والانضواء تحت أفكاره، في فترةٍ من حياتي نفرت منه، مُدحَ أمامي حتى تشبّعت بما سمعت، سُلطة البرتقال عليّ وكوني أصغر منه آذتني، ظهرت أنواع مني تحاول التصرف كـ هو، تتنكر بقشرة تشبه قشرته وتحاول أن تحاكي وتتقمص نكهته، أحب البعض نسختي المطورة، الواقعة في المنتصف بين اليوسفي والبرتقال، أما محبو الوضوح والكلمة الفصل فقد شكّل لهم تمردي وتنكري بهيئته أرقاً جدّياً إذ أنهم لم يعرفوا بمَ ينادونني والأشياء التي بلا تسميات تضغط على أنفاسهم، هوسهم بالكمال وتسمية الأشياء بمسمياتها تضرّر أيما ضرر بسببي، فما هو هذا الكائن الوسط؟ ما ليس بالبرتقال ولا باليوسفي لم يكن موضع ترحيب لديهم، الأشياء عندهم بيضاء أو سوداء، طيبة أو شريرة، لذيذة أو عَفِنة، صديقة أو عدوة، مريحة أو مزعجة، برتقال أو يوسفي!
كانت هذه من مراحل حياتي الصعبة يا عزيزتي الكاتبة، مرحلة الانسلاخ من الهوية وارتداء ثوب ليس لي، محاولة الرضا بتهجيني وتطعيمي بجيناتِ فواكه أخرى، نظرت فإذ بثمرتي الأصلية العتيقة المحبوبة ضاعت خلال فورة المعركة ولم يعد أحد يستبينني، ولا أنا استبنتُ نفسي، تمعنتُ في داخلي، لم أجد تركيبة فصوصي التي اعتدتها ولا لونها، ما بالها شحبَت؟ شهقتُ بذعر، حدث كل هذا أثناء محاولتي لتقليد البرتقال! لكن أتدرين؟ البرتقال كان أكثر مَن فهمَني حين قال: كرهتَني لما تلقّيتَه من ضغوط، لكن ثق أن كل ضغط عليك كان علي أيضاً، أن أكون نموذجك المُحتذى وأدفَع للنجاح بذريعة أنك تراقبني وأني أمهد لك الطريق وأن خطئي وحُفري هي حُفرك المستقبلية لأنك تمشي فوق خطواتي، كل هذا آذاني ولذا نحن أكثر من يفهم بعضنا يا يوسفي، أنا لم أرد أن أكون قدوتك، وكانت فكرة أن خطئي هو خطأ كل من هم أصغر مني تورثني الجنون، لماذا لا أخطئ أخطائي الخاصة دون هذه الجلبة؟ يا يوسفي لا ترهق نفسك، هم نزغوا بيننا، لكن علاقتنا خُلقت في الحقيقة لنستثمرها في خيرنا نحن الاثنان، انظر للفواكه، أرأيتَ بينهم فاكهتين متناغمتين بقدرنا؟ لن أقبل أن نوسع الهوة بيننا، آباؤنا وأمهاتنا من الشجر يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ويشجعوننا بذاك الأسلوب، فلنُخف عنهم قسوة ما حدث ولنبقه سراً بين فصوصنا، فلتخف تجربتك المريرة ولأخف أنا ندوبي التي لا يتخيل أحد ولا حتى أنت أنني حظيت بها خلال مسيري إذ أن الجميع تسامحوا مع أخطائك وجروحك لأنك الأصغر وضمدوا لك مواضع النزيف فيما أنكروا أنني أُجرح وطلبوا مني الانشغال بشفاء نفسي لأنني كبرت وعلي الاستقلال، هذا حزين يا يوسفي، دعنا نخفه عن أهالينا ونبدأ برحلة علاج بعضنا، حيث أول خطواتها أن نحب ذواتنا كثيراً، ثم سيأتي حبنا لبعضنا مجاناً مع قسيمة حب الذات التي دفعنا الثمن غالياً لنحوزَها.
الاقتباس الثالث:
أن يُحبني حباً مكوّن خلطته الأساسي: الحرية فلا يستنزفني، لا يحتكرني، لا يُخللني ويوصلني للاختمار في عزلة إجبارية عن الحياة وعن اهتماماتي.
ألّا يكون حبه مؤذياً، ألا يُعبر عن حبه بالتملك والإيذاء والابتزاز والاستفزاز، أن يرقّ كثيراً وهو يحبّ، أن يرحمَ أكثر، أن يعرف كم انتظرته ولذا لا يخيب أملي فيه.
ألّا يكسرني، ألّا يقص جناحَي، بل أن يفرط في خياطة عشرات الأجنحة لي، أجنحة لعقلي كي يحلق في سماوات لا تُحدّ، أجنحة لقلبي كي يسافر حيث يشتهي النقاهة والسياحة، أجنحة لقدَمي كي تطيرا إلى طموحاتي بدلاً من السير ببطء، أجنحة لفمي كي ينطق بقوة، أجنحة لشوقي كي ينطلق متى شاء ويقابل أحبّته، أجنحة لكلّ بقعة فيّ، أن يُكثر شحني بوقود الطيران.. طيراني أمر مرغوب.
أن يقدّر جلسة قراءتي ويُهدي استغراقي في الكتابِ فنجانَ اهتمام وقهوة.
أن يزرعَ شجرة باسمي، يختارَها من بين أشجار الأرض شجرة يوسفي، ويقلّمَ أغصانها ويقلّم أظافري، ويهوانا نحن الاثنتان، لكن يهواني أكثر، ويرجّح حصتي من اهتمامه على حصتها.
أن يبدأ بتأليف وبناء كوكب لي، لا شرط أن يصممه أجمل من كوكبي، أن يبدأ فقط، حتى لو وضع حجراً واحداً في تأسيس كوكب يهديه لي فسأعتبر الحجر الموضوع بيده قصراً وبرجاً وأفلاكاً، أكتفي أن أراه يحاول، يرضي غروري سعيه لأجلي، ولا أهتم بالنتيجة.
ألّا يُضعفني، ألّا ينهرني، ألّا يحزنني، ألّا يهون عليه نومي باكية حين يحدث أن يحزنني رغماً عنه، أن يتفقّه جداً في تفردي، يضعَ دراساتٍ ونظريات في فهمي، يُبْقي كل الاحتمالات في ذهنه، يعلم أنني أحياناً لا يكفيني الألماس وأحياناً أشبعُ من نعيم الدنيا بإمساك كفّه.
أن تكون مكافأته عناقاً لي، أنا الفستقة الصغيرة التي تتسع في جيبِ رحابته، أنه عندما يقرر القسوة ومعاقبتي يقرّبني جداً، يحتجزُني، وتكون أشد عقوبة لديه ألّا يطلقَني من أوسع حبسٍ عرفَه التاريخ: صدره.
صدره الواسع.. حيث ألقيت تعب صدري وحشرجتي وتَقطُّعُ مُخطط أنفاسي وتحررت من أحمالي لثقتي أنه سيحملها.
وأن يحبني ويغرم بي كلّما التقاني.
آمين!
الاقتباس الرابع:
الجرحُ النازف من قلوب المستضعفات استُغِلّ ليحرِّضها ضد أي رجل، جعلَت معركتها معه لأنه رجل، متأثرة بردة فعلٍ رعناء على محاربته للأنثى لأنها أنثى.
فشلت في الفصل الموضوعي بين عدوٍّ بعينه وبين جنس الرجال، وبدأت بفعلتها فصلاً جديداً أُضيف لمسرحيةِ علاقتهما فانقلبت المسرحية لمهزلة، ونهض طرفاها يلتحمان في حرب لا طائل منها، ولا نتيجة لها إلا الفناء وتركا خلفهما مشاهدَ التقارب الشاعري المكتوبة في نَصّ قصتهما والتي كانت ثمارها دانية أمامهما فغضّا الطرف عنها وانخرطا في معركة إثبات وجود وكأن كل طرفٍ يعترض على مشيئة مَن قدّر خلقهما اثنين يتكاملان، وكأن حثهما على التكاملِ ذهب جفاء، بل كأنهما عاشا في عالم لم ترد في قواميسه مفردة التكامل ولم يسمعا شرحها من أحد!
الحديث يا يوسفي يصف امرأةً لا تصلح للحب..
امرأة ترى فيه آلةً لتفريخ المال، لا يعنيها أن تقسو عليه بل أن يغدِق القطع النقدية عليها بأية طريقة، لا تسعى لفتح فُرجة لقاء في يومه المكتظ بالمشاغل بل ترسلُه بعيداً وتكسر خلفه جرّة لتفرّغَ جلساتها منه وتخيط ثوب لحظاتها خالياً من حضوره المطرّز بتقارب.
امرأةٌ تُخرِج أسوأ ما فيه، لا تمنحه الرضا ما لم يُثبت أنه يلعب لأجلها دور الوغد ويدوسُ في سبيلها زهوراً ناعمة ويشحّ بالسقيا على حقول تفتقر للمسته، امرأة تستأثرُ بمحاسنه وتصدِّر للآخرين مساوئه، فتقلبُه عجينة بين كفّيها، يموء في حضنها ويفترِسُ بوحشية بعيداً عنها، امرأةٌ تصنعُه من شرّ، تكرّس مهاراتِ تأثيرها لتصبّ في عروقه دماء الخبث، لا تأبه بكرامتها إن سلبته من حبيبةٍ قاسمتْه ضنك سنواتِه، لا تعتني بماء وجهها المُراق عندما تنتزعه من بيتٍ أسّسه مع زوجة ازدردت معه ولأجله الشوك وأبناء لم يروا منه إلا: اصمتوا لأنام، فتأتي هي لتسرقَ نومه ويقظته وحصّة الودّ التي كانت مرفوعة على رفّ كبريائه ومخبأة لهم خصيصاً في انتظار أن يرقّ ويضمهم لصدره، تأتي، بل تداهم، تقتحم، تطمع، وتحتكر ما تبقّى مِن حسنِ معشره لها.
امرأةٌ جاهلةٌ في الصبر على قلة حيلته.
امرأة تستثكر عليه جهدَ إطعام اللقيمات والغرام، تتمنّع عن نحْتِ تمثال شبعِه منها وتستمرّ في تجويعِه فعندما لا يجد ما يأكله يأكلُ نفسَه، يأكلُ ضميرَه ويبصق آخر الحراشف فيه، ويتسوّل لعاعات الأجساد الوفيرة على قارعة الرخص.
امرأة تكفرُ بكبريائه، يغيظُها وجهه الناصع فتلطخه بالاتساخ، تهوى دسّ رأسه في التراب، تتفنن في تلويث حلو معشره.
امرأة تتنكّر لسنوات هوى، تنفض يدها من صحبتهما وكأنها غبار، تتركه فورَ توفر بديلٍ دسمٍ مُحمّل بالذهب حتى وإن اقتضى امتلاؤه بالذهب فراغَه من التناغم معها وخلوّه من ابتسامة حبيب أول وذكريات دافئة تقاسماها.
امرأة تعاني من فظاظة الرجال حولها، تذوق حيفَهم، ثم عندما تُمنحُ الولد تلوّنه بألوان الغطرسة والتجبر ذاتها، تعلّمه الطغيان، وتمهّدُ له الدرب ليدوسَ الفتيات حولَه، ترضى بتجاوزاته، تعلّق على صدره نياشين تبريرات تسمح له بتعنيف أخت والتحرّش بصبيّة، وتقلّده عقد ذريعة ضخم الحجم سخيف المعنى: لا شيء يعيب الرجل.
امرأة تخلق وحشها بنفسها، تعيد مجدَه، تكرره، تنسخه، تطبعه، تلفظه، تلده، تحشو دماغه بخرافاتٍ رزحَت تحت ثقلها ولم تحرر النسوة اللاحقات منها، تلقّنه تعاليمَ قطع رأس القط ليلة العرس، تبارك لفظاظته، تهلل لسوء تعامله مع أي أنثى، ذاقت الأسى، فاشتهته لغيرها، قالت فلأضيّفه لكل إناث الأرض، ما دمتُ عشته فليستمرّ أبدياً وليعرفن ما عانيتُه أم أنني سأعاني بمفردي؟
أَلتقيتَ أسوأ من هذين؟ أَصادف وعملت يوماً في ملء بطن أحدهما بفصوصك يا فاكهتي؟ أعانك الله إن كنتَ فعلت، مِن تغضن ملامحك وانكماش حبّاتك وفقدِها لمائها وجفاف ريقها ومن ثم يباسها المحزن أدرك أنك توافقني يا يوسفي؟ ترى فظاعة المشاهد المروية؟ تتقزز من مجرد ذكرها وسماعها؟ حسناً فعلنا بتصنيفِ الناس لقلوبٍ خُلقت للحب وقلوبٍ لا يليق بها أن تخطو خطوة في شارعه، واعذرني إن بدأنا بهم رحلتنا، فقد توجّبَ إلقاؤهم من سفينتنا منذ بداية الإبحار كيلا يعكّروا علينا صفاء التأمل في لوحةِ الإحساس الأحلى والأبهى.
الاقتباس الخامس:
يسألني قلمي: لمَ اليوسفي؟
أتنهّدُ لآتي بجوابي الجديد وأتوغّل في ما أسميه:
الاحتمال الرابع:
هو اليوسفي لأنه قابلٌ ليُقتطَع من كلّه، قابل للتجزيء، وبالتالي.. قابلٌ للمشاركة!
اليوسفي لديه طبيعة تسمح لنا بتشاركه، بأن يتذوق كل حاضرٍ في الجلسة واحداً من فصوصه ليعيشَ الجميعُ النكهةَ ذاتها بنجاح.
إنه اليوسفي لأن البشرَ يحبّون الأشياء المشتركة، التي يفهمونها جميعاً، ويستطيعون إخبار بعضِهم بها وعيشِها معاً وخوض مغامرتها متشابكي الأيدي.
قابلية اليوسفي للمشاركة تُرضي عنه الناس، ليس عنيداً في عطائه، يوافق على أن ينهلَ الملتمون من خيره ويمهّدُ بذلك الأرضية لحديث مشترك.
أتعلم إلامَ يقودنا هذا؟ ستتفاجأ يا يوسفي، لكنني هنا لأقنعك بمدى الارتباط بين الأمرين.
كل الناس يحبون اليوسفي.. فكلّهم تذوقوه.
وكذلك..
كل الناس يحبّون الكاتبَ الذي يصفُ بدلاً عنهم أشياء عاشوها وتشاركوها وتذوقوا طعمها لكنهم فشلوا في التعبير عنها.
إنه اليوسفي يا قلمي..
إنه أنت يا يوسفيّي العزيز لأنني أشبهك بوصفي كاتباً.
أنت قابل للمشاركة، والكاتب أيضاً يجعل كل الأحداث والتفاصيل الحياتية في متناول أيدي القرّاء ككرات اليوسفي البرتقالية، يحضرها لهم من رفوف التلعثم حيث رفعَتها حبسة الكلام عالياً، يعرِضها ويفنّدُها ويجهّز لهم مائدة الشعور ليغطسوا في مياهه، وكما يتشاركون اليوسفي، يتشاركون الشعور، يجعل الكاتب كل من قرأ نصَّه يغوص في إحساس واحد، عندما يكتب تحين لحظة تاريخية يتشارك فيها كل قرائه ذات الخفقة، وذات التفاعل مع الحدث، وذات الدمعة وذات الابتسامة، يعيشون أحاسيس متشابهة متمردين على فكرة المكان، لاغين بتوحد أفكارهم وتزامنها أقسى تباعد.
الكاتب يوسفي في موضعِه، يقتطع من فصوص دماغه وحلاوة قلبه وحموضة تجاربه قطعاً يقدّمها للآخرين، يضيّفها لهم بكرم بالغ.
أليس الاحتمال الرابع معقولاً حضرة القلم وحضرة اليوسفي؟